Back to all Post

من العطاء المنظم إلى الاستثمار المؤثر نقلة نوعية نحو التنمية المستدامة

مع تزايد التحديات الاجتماعية والبيئية في عالمنا، لم يعد العطاء يقتصر على التبرعات التقليدية، بل أصبح يتطلب نهجًا أكثر تنظيمًا وتأثيرًا طويل الأمد. من هنا نشأ مفهوم “العطاء المنظم” و”الاستثمار المؤثر”، اللذان يجمعان بين تحقيق أهداف اجتماعية وإنسانية وبين الاستدامة والربحية. هذه الاستراتيجيات تتيح توجيه الموارد بشكل مدروس، ما يضمن تأثيرًا دائمًا وعوائد مشتركة للمجتمع والبيئة. دمج هذين المفهومين يفتح الباب أمام مستقبل مستدام يحقق تغييرًا حقيقيًا ويعزز الربحية والمسؤولية الاجتماعية معًا.

ما هو العطاء المنظم؟

العطاء المنظم هو نهج استراتيجي لإدارة التبرعات والدعم المالي، يركز على تحقيق أثر مدروس وطويل الأمد. يهدف هذا النهج إلى توجيه الموارد بطرق تضمن استدامة ومراقبة الأثر على المدى البعيد. فمثلاً، قد يتم توجيه العطاء المنظم نحو تمويل برامج تعليمية أو صحية بدلاً من تقديم تبرعات مباشرة، مما يؤدي إلى تحسين نوعية حياة الأفراد والمجتمعات على المدى الطويل.

الاستثمار المؤثر: الحل المستدام

الاستثمار المؤثر هو خطوة متقدمة نحو تحقيق استدامة الأثر الاجتماعي. يختلف هذا النوع من الاستثمار عن العطاء التقليدي في سعيه لتحقيق عوائد مالية، مما يساهم في خلق نموذج استثماري مستدام يجمع بين الربحية والمساهمة في الصالح العام من خلال استثمار الأموال في مشاريع وشركات تحقق أرباحاً مالية بجانب الأثر الإيجابي على المجتمع والبيئة.

الفروق بين العطاء المنظم والاستثمار المؤثر

الفرق الأساسي بين العطاء المنظم والاستثمار المؤثر يكمن في كيفية توجيه الأموال وتحقيق الأهداف، وتتلخص الفروق في:

  1. الاستدامة: يتميز الاستثمار المؤثر بقدرته على تحقيق استدامة مالية، إذ تعيد المشاريع استثمار الأرباح في دعم مشاريع أخرى مستقبلاً. أما العطاء المنظم فيعتمد على تبرعات قد لا تكون مستدامة.
  2. الشفافية والمساءلة: يعتمد المستثمرون المؤثرون على أدوات قياس محددة مثل مؤشرات الأثر الاجتماعي والبيانات المالية للمشاريع، مما يعزز الشفافية ويتيح متابعة الأثر بوضوح.
  3. تحقيق الأرباح: في العطاء المنظم، تُمنح الأموال دون توقع عائد مالي، بينما يسعى الاستثمار المؤثر لتحقيق أرباح مالية إلى جانب الأثر الاجتماعي.

تأثير الاستثمار المؤثر على المجتمعات المحلية

لا يقتصر الاستثمار المؤثر على العائد المالي فقط، بل يمتد ليحدث تغييرات إيجابية مستدامة في المجتمعات المحلية. من خلال توجيه الأموال نحو مشاريع تنموية في مجالات مثل التعليم والصحة والطاقة المتجددة، والتي تساهم في بناء مجتمعات أقوى وأكثر استدامة.

إشراك المجتمع بروح جديدة الأثر الاجتماعي والاقتصادي للاستثمار المؤثر الفعاليات التفاعلية

  1. خلق فرص عمل مستدامة: تبرز قيمة الاستثمار المؤثر في قدرته على خلق فرص عمل طويلة الأمد في المجتمعات المحلية. فمثلاً، يساهم الاستثمار في مشاريع مثل الزراعة والطاقة المتجددة في خلق فرص عمل طويلة الأمد، مما يمكّن الأفراد ويطور من مهاراتهم ويسهم في تنمية المجتمعات المحلية وبالتالي تقليل معدلات البطالة.
  2. تحسين البنية التحتية الاجتماعية: إن الاستثمار في بناء المدارس والمستشفيات والمراكز الصحية يعزز من جودة الحياة، ويساهم في تعزيز فرص التعليم ورفع مستوى المعرفة والمهارات، مما يقلل الفقر ويعزز النمو المستدام ويحسن مستقبل الأجيال القادمة.
  3. تمكين المرأة والشباب: أحد أعمدة الاستثمار المؤثر وأبرز محاوره هو النهوض بالفئات المهمشة، وعلى رأسها المرأة والشباب. فتمكين المرأة عبر برامج ريادة الأعمال والتدريب المهني يفتح أمامها آفاقًا اقتصادية جديدة، ويساهم في إطلاق قدراتها الكامنة. وفي الوقت ذاته، يسهم الاستثمار في تعليم الشباب وتزويدهم بمهارات مهنية متينة في دفع عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وبهذا، يتجلى أثر الاستثمار المؤثر في صناعة جيل جديد من القادة ورواد الأعمال، القادرين على رسم معالم المستقبل وبناء مجتمعات مزدهرة.
  4. تأثير الاستثمار المؤثر على التنمية المحلية: الاستثمار المؤثر يفتح آفاق النمو للمجتمعات، حيث يضفي عليها طابع الاستدامة والاستقلالية، مما يعزز مناعتها في مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية. فمن خلال توجيه الدعم نحو مشاريع تهدف إلى صقل المهارات وتحسين البنية التحتية، يتحول الاستثمار إلى أداة تمكينية، تمكن المجتمعات الفقيرة من الاعتماد على الذات، فتغدو مجتمعات حية تنبض بالنشاط والإنتاج، قادرة على رسم مستقبلها بيدها.

كيفية الانتقال من العطاء المنظم إلى الاستثمار المؤثر

للانتقال من العطاء المنظم إلى الاستثمار المؤثر، هناك خطوات أساسية يجب اتباعها:

    1. التوعية: زيادة الوعي بأهمية الاستثمار المؤثر من خلال ورش العمل والندوات التي تقدم أمثلة عملية وتشرح أهمية هذا التحول.
    2. التخطيط المالي: صياغة أهداف اجتماعية بجانب العائد المالي، ووضع استراتيجيات لتحقيق تلك الأهداف.
    3. قياس الأثر: اعتماد أدوات لقياس الأثر الاجتماعي مثل تحسين جودة الحياة وتوفير فرص العمل.
    4. دور الحكومات والمؤسسات: تقديم الحوافز المالية والتشريعات الداعمة لتشجيع الاستثمار المؤثر. على سبيل المثال، يمكن أن تقدم الحكومات إعفاءات ضريبية للمستثمرين الذين يساهمون في المشاريع الاجتماعية، مما يحفز المزيد من الاستثمارات في هذا المجال.

التحديات والفرص

التحديات

  • قلة الوعي بجوهر مفهوم الاستثمار المؤثر وما يحمله من إمكانات.
  • صعوبة قياس الأثر الاجتماعي بدقة مما يضع عقبة أمام اتخاذ قرارات استثمارية قائمة على رؤى واضحة ومبنية على معطيات وحقائق.

الفرص

  • تزايد الطلب على المشاريع المستدامة مع ارتفاع الوعي بالقضايا البيئية والاجتماعية التي تعزز مسارات التنمية المستدامة، وتؤسس لعالم أكثر توازناً.
  • دور الاستثمار المؤثر كقوة دافعة للتنمية في الدول النامية حيث يسهم في تحسين البنية التحتية وخلق فرص عمل جديدة، ليصبح بذلك حجر الأساس في بناء اقتصاد قوي ومجتمعات متكاملة.

أهمية قياس الأثر الاجتماعي والبيئي للاستثمارات

الشفافية والمساءلة في الاستثمار المؤثر  

يقوم الاستثمار المؤثر على ركن أساسي يتمثل في قياس الأثر الاجتماعي والبيئي لضمان تحقيق الأهداف التنموية جنبًا إلى جنب مع العائد المالي. فعندما يتم قياس هذا الأثر بدقة وبصورة منتظمة، يصبح المستثمر على بينة من أن استثماراته تُحدث تأثيرًا حقيقيًا ومستدامًا، وهذا بدوره يعزز من شفافية العمليات ويزيد من ثقة المستثمرين في أن أموالهم تترك بصمة إيجابية تتجاوز الأرباح المالية.

الأدوات المستخدمة لقياس الأثر

  • مؤشرات الأداء الرئيسية (KPIs)

يتم صياغة المؤشرات بما يتناسب مع طبيعة كل مشروع وأهدافه المحددة. ومن بين تلك المؤشرات: 

  1. عدد الوظائف الجديدة التي يتم توفيرها في المجتمع المحلي نتيجة للاستثمار.
  2. نسبة تخفيض الانبعاثات الكربونية عبر مشاريع الطاقة النظيفة.
  3. تحسين مستويات التعليم، كزيادة عدد الطلاب الملتحقين بالمدارس.
  4. رفع جودة الحياة من خلال تعزيز الخدمات الصحية أو تطوير البنية التحتية بشكل أفضل.

تعمل هذه المؤشرات كمعيار ملموس لتقييم مدى التقدم نحو تحقيق الأهداف المجتمعية والتنموية.

التقارير الدورية للأثر

تلتزم العديد من المؤسسات التي تستفيد من الاستثمارات المؤثرة بتقديم تقارير دورية تستعرض الأثر الذي حققته المشاريع المدعومة. هذه التقارير تزوّد المستثمرين بمعلومات دقيقة حول التأثير الاجتماعي والبيئي المُنجز، مثل تحسين مستوى الرعاية الصحية أو زيادة الدخل المحلي. هذه الآلية تعزز الشفافية، وتُمكن المستثمرين من متابعة استثماراتهم بشكل مستمر وفعّال.

ومع تنامي الاهتمام بالاستثمار المؤثر، تزداد أهمية قياس الأثر الاجتماعي والبيئي أكثر من أي وقت مضى. فتَوَفُر البيانات الدقيقة حول هذا الأثر يمكّن المستثمرين والمؤسسات من تحقيق أهدافهم التنموية والمالية في آنٍ واحد، مما يزيد من جاذبية هذا النوع من الاستثمار ويحفز المزيد من الأفراد والمؤسسات للانخراط فيه.

الطريق نحو التنمية المستدامة عبر الاستثمار المؤثر

في الختام، يُمثل الاستثمار المؤثر نقلة نوعية وحاسمة في مسار تحقيق التنمية المستدامة في العالم العربي. فبدلاً من الاقتصار على العطاء المنظم وحده، يُتيح الاستثمار المؤثر للمستثمرين فرصة تحقيق أثر اجتماعي وبيئي إيجابي، مع جني عوائد مالية مستدامة. إن التحول من العطاء التقليدي إلى الاستثمار المؤثر ليس مجرد تغيير في أسلوب دعم المشاريع، بل هو فرصة حقيقية لخلق تنمية مستدامة وشاملة تعود بالفائدة على المجتمع والاقتصاد معاً، مما يمهد الطريق لمستقبل أكثر إزدهاراً واستدامة.